الرياضة الغزّية خارج قواعد اللعب النظيف

منصات التتويج تحولت إلى مقابر، والقمصان الممزقة صارت رايات على جدران البيوت المهدمة، في زمن صمتت فيه عدالة الرياضة

كأس المحافظات الجنوبية - قطاع غزة 1999 - بعد قصف منشأة رياضية
كأس المحافظات الجنوبية – قطاع غزة 1999 – بعد قصف منشأة رياضية

في عالمٍ يُفترض أن الرياضة فيه لغة سلام، تُقصف الملاعب في غزة، ويُقتل الرياضيون، بينما تصمت المؤسسات الدولية التي ترفع شعارات “اللعب النظيف” هنا، لا تُحتسب الأهداف، بل الأرواح ولا تُرفع الكؤوس، بل تُرفع صور الشهداء.

وفي غزة، حين يسقط لاعب شاب تحت الركام، لا يُدوَّن اسمه في سجلات الانتصار، بل في ق

وائم الشهداء. تُعلّق قمصانه الممزقة على جدران البيوت المهدمة بدل أن تُعلّق على جدران قاعات التكريم، تُطوى أحلامه الصغيرة مع كراته وأحذيته، في حقيبة لم يعد يفتحها أحد .

هناك أمهات كنّ يحلمن برؤية أبنائهن على منصات التتويج، فصرن يزورونهم في المقابر، وأطفال كانوا يركضون وراء الكرة، صاروا يركضون وراء عربات الإسعاف، أما الملاعب التي كانت تضحك، فقد تعلمت الآن البكاء.

 الرياضة في غزة: نافذة حياة وسط الحصار

منذ سنوات، شكّلت الرياضة في غزة متنفسًا حقيقيًا للشباب المحاصر. في ظل انقطاع الكهرباء، نقص الموارد، وانعدام فرص السفر، كانت كرة القدم، الكاراتيه، وكرة السلة وسيلة للهروب من الواقع القاسي.
lass=”yoast-text-mark” />>على الرغم من أن تقرير هيومن رايتس ووتش قبل العداون الحالي كان صادمًا حيث ذكر فيه أن القيود المفروضة على الحركة، والحصار المستمر، حرمت الرياضيين الفلسطينيين من المشاركة في البطولات الدولية، ومنعتهم من التدريب في بيئة آمنة، بل حتى من الحصول على المعدات الأساسية.

الرياضة لم تكن مجرد نشاط بدني، بل كانت مساحة نفسية للهروب من ضغط الحياة اليومية، من أصوات الطائرات، ومن أخبار الموت التي لا تتوقف، كانت لحظة نادرة يشعر فيها الشاب بأنه يملك شيئًا، بأنه قادر على الإنجاز، على التحدي، على ال

حلم.

لكن في غزة، حتى الحلم يُقصف.

في كل حيّ، هناك ملعب صغير، أو ساحة ترابية، أو زقاق يتحول إلى ميدان رياضي، هناك أطفال يركلون الكرة بأقدام حافية، وهناك مدربون يصنعون من المستحيل فرصة تدريب، الرياضة هنا لا تحتاج إلى منشآت فاخرة، بل إلى لحظة أمان، وفسحة أمل.

 ملاعب تتحول إلى ملاجئ

ملعب الشهيد محمد الدرّة تحول إلى مركز إيواء للنازحين

الملاعب التي كانت تُزينها الأعلام وتُهتف فيها الأسماء، تحوّلت إلى خيام نزوح.

ملعب اليرموك، الذي شهد مباريات تاريخية، صار مأوى للنازحين، على أرضه

نُصبت الخيام، وعلى مدرجاته تجلس العائلات التي فقدت منازلها.

في الزوايا التي كانت تُرسم فيها الخطط التكتيكية، تُوزّع اليوم فيها أقدار الطعام وإن وجدت، وفي المرمى، الذي كان يُحرس من الأهداف،صار يُحرس من البرد والذل .

بحسب وكالة رويترز، فإن آلاف الفلسطينيين اضطروا للجوء إلى المنشآت الرياضية بعد تدمير أحيائهم بالكامل، مما حوّل الرياضة من مساحة فرح إلى مرآة مأساة شاهدة على حقيقة لا تغطى بغربال .

“الملاعب التي كانت معابد للفرح، صارت شاهدة على التشرد.”

في بعض الصالات، تُعلّق صور الشهداء على الجدران، وتُكتب أسماء الفرق التي لم تكتمل تشكيلتها، في كل زاوية، هناك قصة لم تُروَ، وصرخة لم تُسمع .

 

 رياضيون في قوائم الشهداء

الشهيد الفلسطيني : سليمان العبيد لاعب منتخب فلسطين السابق

منذ أكتوبر 2023، ارتقى أكثر من 672 رياضيًا فلسطينيًا، بينهم نجوم محليون ومدربون وحكام.

بحسب الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، فإن العدوان الأخير دمّر أكثر من 25 منشأة رياضية، وأودى بحياة عشرات الرياضيين.

كل اسم منهم يمثل قصة حلم قُطعت قبل أن تكتمل، هؤلاء لم يكونوا مجرد لاعبين، بل رواة حكاية غزة، وسفراء حلمها في العالم .

في كل بيت غزّي، هناك صورة رياضي شهيد معلقة على الجدار، وهناك طفل صغير يقول: “كان أبي يلعب هنا”، وهناك حلم ينتظر أن يُكمل طريقه قبل أن يموت الحلم في مدينة سيطرت عليها رائحة الموت .

 ازدواجية المعايير الدولية

رغم حجم المأساة، لم تُصدر الفيفا أو اللجنة الأولمبية الدولية أي بيان يدين استهداف الرياضيين أو المنشآت الرياضية في غزة،

في المقابل، أوقفت الفيفا سابقًا اتحادات رياضية بسبب أحداث أقل بكثير، كما حدث مع روسيا في 2022 بعد غزو أوكرانيا .

بحسب الجارديان، فإن ازدواجية المعايير في التعامل مع القضايا السياسية والرياضية باتت واضحة، حيث يُعاقب البعض ويُتجاهل آخرون.

“الروح الرياضية لا تُقاس بالنتائج، بل بالمواقف.”

حتى الآن، لم تُعلّق أي بطولة، ولم تُفرض عقوبات، ولم تُطالب بتحقيق دولي في استهداف الرياضيين الفلسطينيين. وكأن الرياضة الفلسطينية خارج قواعد “اللعب النظيف”.

الصمت هنا ليس حيادًا، بل مشاركة في الجريمة، وكل يوم يمر دون إدانة، هو يوم يُضاف إلى سجل الخذلان.

 الرياضة كهوية وطنية

الرياضة في فلسطين ليست مجرد نشاط شبابي، بل جزء من الهوية الوطنية.
>منذ تأسيس الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم عام 1928، كانت الرياضة وسيلة لإثبات الوجود، ولتمثيل فلسطين في المحافل الدولية رغم الاحتلال والحصار.
الرياضيون الفلسطينيون حملوا علم بلادهم في البطولات، ورفعوا اسمها في المحافل، رغم كل القيود.
كل هدف يُسجّل، كل ميدالية تُنتزع، هو إعلان بأن فلسطين موجودة، وأنها تستحق الحياة.
حتى في أصعب اللحظات، كانت الرياضة وسيلة لتوحيد الصف، ولإيصال صوت الشعب إلى العالم.
الملعب هنا ليس مجرد مساحة لعب، بل منصة نضال، ومنبر كرامة.

ويظل هدف سليمان العبيد في اليمن علامة خالدة في ذاكرة الفلسطينيين، ليس فقط لأنه هدف رياضي، بل لأنه صرخة وجودية، لحظة انتصار للهوية والكرامة، رسالة تقول:

“نحن موجودون رغم كل الحصار، نركل، نلعب، ونرفع علمنا عاليًا في وجه العالم”، لتبقى الرياضة الفلسطينية شاهدة على الإرادة التي لا تنكسر.

 الركام ملعبٌ مؤقت

رغم كل شيء، لا تزال غزة تركل الكرة، الأطفال يلعبون بين الأنقاض، الفتيات يتدربن في الصالات المهدمة، والمدربون يعلّمون في الظل.

الرياضة في غزة ليست مجرد لعبة، بل مقاومة، وهوية، ووعد بأن الحياة ستعود.

“غزة لا تموت، بل تغيّر شكل لعبتها، قد تُسقط القذائف الشباك والمدرجات، لكن ما دام هناك طفل يركل كرة في زقاق مظلم، ستظل الروح أقوى من الموت، والحلم أقوى من الركام.”

 

Exit mobile version