في كرة القدم، التي تُعد في جوهرها لعبةً ترفيهية يُفترض أن تجمع الشعوب وتُعلي من قيمة المنافسة الشريفة، قد تتحول في بعض الأحيان إلى مسرحٍ للأزمات والتوترات، تلك التوترات التي تنشأ من مشاعر متأججة، بين طموحات اللاعبين والضغط النفسي الناتج عن توقعات الجماهير والإدارة، لكن عندما تتحول المنافسة من الملعب إلى أزمات داخلية وخارجية، يتعين أن نطرح السؤال، هل تظل كرة القدم مجرد لعبة؟ أم أنها باتت تعكس أزمات أعمق تتجاوز حدود المستطيل الأخضر؟
في خضم تلك التوترات، برزت مقولة خالدة لمانويل جوزيه، المدرب الأسطوري للنادي الأهلي، عندما قال لعماد متعب، “أنت ليس بطل قومي، أنت مجرد مهرج في سيرك، مهمتك ترفه عن الناس، لا أكثر ولا أقل، هذه الكلمات رغم قسوتها تعكس حقيقة أعمق حول طبيعة اللعبة ودور اللاعبين فهم في النهاية فنانون رياضيون، يقدمون العروض لجماهيرهم، لكن في بعض الأحيان ينسى هؤلاء اللاعبون هذا الدور ويتحولون إلى أبطال خارجيين للصراعات، ما يؤدي إلى تحويل الساحة الرياضية إلى سيرك من نوع آخر، لكن دون أي ترفيه.
كهربا.. انفجار الغضب داخل غرفة الملابس
محمود عبد المنعم “كهربا”، اللاعب الذي اعتاد أن يكون أحد أعمدة الأهلي الهجومية، وجد نفسه في موقف غير متوقع بعد مباراة سيراميكا في نصف نهائي كأس السوبر المصري، فبدلًا من أن يكون اللاعب الأساسي في خط الهجوم، تراجع ترتيبه إلى الخيار الثالث بعد أن فضل المدرب مارسيل كولر الدفع بطاهر محمد طاهر بدلًا من وسام أبو علي.
لم يستطع كهربا إخفاء غضبه، فانفجر داخل غرفة الملابس، معبرًا عن استيائه بصوت عالٍ أمام الجهاز الفني، الأمر الذي أربك الجميع وحاولوا تهدئته دون جدوى، تلك اللحظة الصاخبة انتهت بخروج كهربا غاضبًا إلى حافلة الفريق، رافضًا حتى مصافحة كولر، ما وضع النادي في موقف حرج.
تلك الأزمة لم تنتهِ عند هذا الحد، المدير الرياضي للأهلي، محمد رمضان، الذي صادف دخوله غرفة الملابس في نفس اللحظة، قرر توقيع غرامة مالية قدرها مليون جنيه على كهربا وترحيله إلى مصر، مع التفكير في عرضه للبيع خلال فترة الانتقالات المقبلة، قرار شديد، لكنه يعكس محاولة الإدارة فرض النظام والانضباط داخل الفريق، خاصة بعد سلسلة الأزمات التي شهدتها علاقات كهربا بالنادي في الفترة الأخيرة.
الزمالك.. اعتداءات وصدامات قانونية
على الجانب الآخر من السوبر المصري، لم يكن الزمالك بمنأى عن الأزمات، فبعد مباراة نصف النهائي أمام بيراميدز، قام الثنائي نبيل عماد “دونجا” ومصطفى شلبي بالاعتداء على أحد أفراد الأمن، وهو ما ترتب عليه توقيع غرامة مالية ضخمة قدرها 600 ألف درهم (ما يعادل 8 مليون جنيه مصري) على اللاعبين.
تلك الحادثة لم تقتصر على الغرامة المالية فقط، بل تم احتجاز اللاعبين لدى النيابة العامة، حيث من المقرر عرضهما على النيابة في صباح اليوم الثلاثاء رغم دفع الكفالة المطلوبة، هذه الأزمة القانونية ألقت بظلالها على استعدادات الفريق للمباراة النهائية للسوبر، وجعلت إدارة الزمالك تدرس بشكل جدي إمكانية الانسحاب من البطولة احتجاجًا على احتجاز لاعبيها، مما يفتح الباب أمام توتر أكبر في علاقة النادي مع الجهات المسؤولة.
الأهلي والزمالك.. من المنافسة إلى الأزمات المتكررة
لطالما كانت مباريات الأهلي والزمالك هي قمة المتعة الكروية في مصر، لكنها باتت في السنوات الأخيرة تحمل طابعًا مختلفًا؛ المنافسة باتت أشبه بحرب نفسية، تتخللها التوترات والقرارات المثيرة للجدل، أزمات كهربا داخل الأهلي والاعتداءات التي قام بها لاعبو الزمالك تشير إلى تفاقم التوترات داخل الفرق المصرية الكبرى.
هذه الأزمات لم تعد مجرد حوادث فردية، بل أصبحت تعكس حالة عامة من التوتر والضغط الذي يعاني منه اللاعبون في ظل توقعات الجماهير الهائلة والضغوط الإدارية المستمرة، تلك الأزمات تكشف عن نقص في إدارة الأزمات النفسية والعقلية للاعبين، وهو ما يحتاج إلى معالجة فورية من قبل الأندية والاتحاد المصري لكرة القدم.
الاحترافية المفقودة.. عندما يتحول اللاعب إلى مصدر للأزمات
ما حدث مع كهربا ودونجا ومصطفى شلبي هو تجسيد لفقدان الاحترافية في التعامل مع الضغوط داخل الأندية المصرية، لاعبون باتوا يتصرفون وكأنهم أكبر من الأندية أو فوق القوانين، وهو ما يعكس أزمة عميقة في التعامل مع الضغوط المهنية والنفسية، في أوروبا، تُدار مثل هذه الأزمات بحرفية عالية من قبل الإدارات والأجهزة النفسية المختصة، التي تعمل على تأهيل اللاعبين نفسيًا قبل التعامل مع الضغوط البدنية، لكن في مصر، يبدو أن هذا الجانب يغيب بشكل كبير، مما يؤدي إلى انفجارات غير محسوبة مثل ما شهدناه في السوبر المصري.
مانويل جوزيه وكلماته الخالدة.. هل كرة القدم مجرد سيرك؟
قد تبدو كلمات مانويل جوزيه قاسية، لكنها تحمل في طياتها درسًا عميقًا، عندما قال لعماد متعب “أنت مجرد مهرج في سيرك”، كان يحاول أن يضع الأمور في نصابها الصحيح، كرة القدم، مهما كانت أهميتها بالنسبة للجماهير، تظل في نهاية المطاف لعبة، ودور اللاعبين هو تقديم العروض وإسعاد الجماهير، وليس الدخول في صراعات وأزمات تزيد من توتر الأجواء.
لكن يبدو أن هذا الدرس قد نُسي في خضم المنافسات والضغوط المتزايدة، لاعبو الأهلي والزمالك، الذين كان من المفترض أن يكونوا قدوة لجماهيرهم، تحولوا إلى أبطال لأزمات وصراعات داخلية، وهو ما يحوّل البطولات إلى مسرح للفوضى بدلًا من ساحة للمتعة الكروية.
مستقبل الكرة المصرية.. هل هناك أمل في الإصلاح؟
في ضوء هذه الأحداث، تبرز الحاجة الماسة إلى إعادة النظر في كيفية إدارة كرة القدم المصرية، من الضروري أن يتم التعامل مع اللاعبين ليس فقط على أنهم رياضيون، بل كبشر يعانون من ضغوط نفسية هائلة، يجب أن يكون هناك دعم نفسي متخصص داخل الفرق، بالإضافة إلى إعادة تقييم كيفية إدارة الأزمات داخل الأندية.
كما أن الاتحاد المصري لكرة القدم يجب أن يكون له دور أكبر في فرض الانضباط وتحقيق العدالة، مع تقديم حلول جذرية تمنع تكرار مثل هذه الأزمات، كرة القدم في مصر تحتاج إلى بيئة صحية، حيث يتم التعامل مع الأزمات بحكمة واحترافية، بدلًا من تحويلها إلى سيرك متوتر يغيب فيه الهدف الرئيسي للعبة، وهو المتعة والترفيه.
العودة إلى جوهر اللعبة
الأحداث الأخيرة في السوبر المصري تظهر أن كرة القدم في مصر ليست في أفضل حالاتها، الأزمات التي تواجهها الأندية الكبرى تعكس تحديات أكبر من مجرد مباريات كرة قدم، إنها تحديات نفسية واجتماعية تتطلب إعادة النظر في طريقة إدارة اللعبة.
في نهاية المطاف، كرة القدم هي لعبة تهدف إلى إسعاد الجماهير وتقديم لحظات من الفرح والتحدي الرياضي، لكنها تفقد معناها عندما تتحول إلى ساحة للصراعات والأزمات، يجب أن يعود اللاعبون والمدربون والإداريون إلى جوهر اللعبة، ويتذكروا أن مهمتهم الأساسية هي الترفيه، وليس خلق التوترات والمشكلات.